[بحث جاهز للطباعة] النزعة الوجدانية في شعر شوقي -
النزعة الوحدوية في شعر شوقي (العدد : 531)
لعبت الفصحى دورا بالغ الأهمية في تقريب وجهات النظر العربية ومن ثم توحيد الصف العربي عقب الحرب العظمى الأولى، وقد كان لشعر شوقي أثر كبير في ذلك. فقبل نهاية الحرب لم يكن يظهر على الأدب المصري أي اهتمام بالقضية العربية، بل يمكننا القول: إنه كان لا ينظر إليها بعين الرضا. وكانت مصر تتطلع إلى أن تنال بعد الحرب استقلالها التام، والتخلص من الاحتلال البريطاني، كما كان القائمون بالثورة العربية خارج الديار المصرية يعللون النفس بالتحرر من تركيا وتأسيس دولة أو دول عربية ذات سيادة، لكن الحرب لم تسفر إلا عن خيبة في الرجاء، فسلطة الاحتلال عززت إقامتها في وادي النيل، والثورة العربية لم تنل بعد الانفصال عن تركيا غير الانتداب الأجنبي البغيض، وهكذا نشأ في مصر وسائر بلدان الوطن العربي شعور مشترك بما أصابهم جميعا من إجحاف وبلاء، وبتأثير هذا الشعور أخذ الشعر المصري يتحول عن نفوره من القضية العربية، ويقترب أكثر فأكثر منها، مشاركا شعوبها في كل بلد في سرائهم وضرائهم وآمالهم وآلامهم، وقد عبر عن ذلك شوقي في قصيدته التي ألقاها على العرب يوم مهرجانه عام 1927 إذ يقول:
رب جار تلفتت مصر توليه
سؤال الكريم عن جيرانه
بعثتني معزيا بمآقي
وطني أو مهنئا بلسانه
كان شعري الغناء في فرح الشوق
وكان العزاء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح
وأن نلتقي على أشجانه
كلما أنّ بالعراق جريح لمس
الشرق جنبه في عمانه
وعلينا كما عليكم حديد
تتنزى الليوث في قضبانه
نحن في الفقر بالديار سواء
كلنا مشفق على أوطانه
هذا الشعور العربي المشترك أهاج كوامن شاعرية أمير الشعراء فتدفقت من يراعه في بضع قصائد رائعة ومنها قصيدتاه في دمشق "النونية والقافية" قال الأولى عام 1925 في المجمع العلمي اللغوي بدمشق ومطلعها:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
وفيها يبرز دور دمشق وأثره في ازدهار طليطلة وبغداد حاضرة العباسيين وتأثره بتغيير مسجده الكبير الحزين:
لولا دمشق لما كانت طليطلة
ولا زهت ببني العباس بغدان
مررت بالمسجد المحزون أسأله
هل في المصلى أو المحراب "مروان"
تغير المسجد المحزون واختلفت
على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته
إذا تعالى، ولا الآذان آذان
ويختم القصيدة بنصيحة تتضمن نزعته الوحدوية بقوله:
نصيحة ملؤها الإخلاص، صادقة
والنصح خالصة دين وإيمان
والشعر مالم يكن ذكرى وعاطفة
أو حكمة، فهو تقطيع وأوزان
ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم
ونحن في الجرح والآلام إخوان
أما القصيدة الثانية فقد ألقاها عقب ما أصاب دمشق من الفرنسيين إبان الثورة السورية عام 1926 ومطلعها:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومنها:
لحاها الله أنباء توالت
على سمع الولي بما يشق
تكاد لروعة الأحداث فيه
اتخال من الخرافة وهي صدق
إلى قوله:
رباع الخلد ويحك ما دهاها
أحق أنها درست أحق؟
وللمستعمرين وإن ألانوا
قلوب كالحجارة لا ترق
ثم يلتفت إلى ساسة سورية محذرا إياهم من الاختلاف والتنازع طمعا في الحكم والسيادة فيقول:
بني سورية اطرحوا الأماني
وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
فمن خدع السياسة أن تغروا
بألقاب الإمارة وهي رق
نصحت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق
ولشوقي من هذا الباب قصيدة في ذكرى استقلال سورية وذكرى شهدائها في "ميسلون" ومطلعها:
حياة ما نريد لها زيالا
ودينا لا نود له انتقالا
وفيها يعزي سورية في شهدائها ويشيد بأبطالها ويقوي بشعره من الرابطة العربية فيقول:
بني البلد الشقيق، عزاء جار
أهاب بدمعه شجن فسالا
قضى بالأمس للأبطال حقا
وأضحى اليوم بالشهداء غالى
يعظم كل جهد عبقري
أكان السلم أم كان القتالا
وما زلنا إذا دهت الرزايا
كأرحم ما يكون البيت آلا
وقد أنسى الإساءة من حسود
ولا أنسى الصنيعة والفعالا
ثم يقول مشجعا السوريين على المضي في تعاونهم والتحامهم والتئامهم كالبنيان المرصوص:
بني سورية، التئموا ليوم
خرجتم تطلبون به النزالا
سلوا الحرية الزهراء عن
اوعنكم: هل أذاقتنا الوصالا؟
وهل نلنا كلانا اليوم إلا
عراقيب المواعد والمطالا؟
عرفتم مهرها فمهرتموها
دما صبغ السباسب والدغالا
ومن هذا القبيل رثاؤه الملك حسين (شريف مكة السابق وموقد الثورة العربية على الأتراك) وكان المصريون عموما إبان تلك الثورة ينددون بعمل الحسين ويعدون هذا العمل خيانة لأمير المؤمنين (السلطان العثماني)، وقد تدفق يراع شوقي قبيل الحرب العظمى الأولى بشعر يستصرخ فيه السلطان طالبا معاقبة الحسين لما يعتقده من سوء معاملته للحُجاج يقول فيه:
ضج الحجيج وضج البيت والحرم
واستصرخت ربها في مكة الأمم
قد مسها في حماك الضر فاقض له
اخليفة الله- أنت السيد الحكم
لك الربوع التي ريع الحجيج بها
أللشريف عليها أم لك العلم
أدبه أدب أمير المؤمنين فما
في العفو عن فاسق فضل ولا كرم
على أن هذه اللهجة الساخنة على الشريف حسين لم تلبث أن خبت بعدئذ وحل محلها شعور بإخاء عربي عام، وهاهو شوقي نفسه يرثي الحسين بقصيدة في عام 1931 مطلعها:
لك في الأرض والسماء مآتم
قام فيها أبو الملائك هاشم
ومنها- ذاكرا الأسى الذي أصاب البلدان العربية جمعاء لفقده:
المناحات في ممالك أبنائك
بدرية العزاء قوائم
أي إن حزنهم عليك كحزن المسلمين أيام رسولنا الكريم على صرعى موقعة بدر الشهيرة:
تلك بغداد في الدموع وعمّان
وراء السواد والشام واجم
والحجاز النبيل ربع مُصَلٍّ
من ربوع الهدى وآخر صائم
واشتركنا فمصر عبرى ولبنان
سكوب العيون باكي الحمائم
ويسأل الحسين في هذه المرثاة أن يحدث الناس عن نتائج الحرب التي اندفع فيها العرب بقيادته إلى مساعدة جيوش الحلفاء، أملا في الحصول على حرياتهم واستقلالهم، ولكن لم يكن منها سوى خيبة الأمل:
قد رجونا من المغانم حظًّا
ووردنا الوغى فكنا المغانم
قد بعثت القضية اليوم ميتا
رب عظم أتى الأمور العظائم
أنت كالحق ألّف الناس يقظان
وزاد ائتلافهم وهو نائم
في نفس العام 1931 أعدم شيخ شهداء المسلمين والعرب، بطل طرابلس الغرب، عمر المختار، الذي قاتل الطليان قتالا مريرا ذودا عن حياض وطنه وقومه، حتى قبضوا عليه وأعدموه شنقا، وأشيع حينذاك أنهم سلكوا في إعدامه سبلا بشعة، ولم يرحموا سنه التي نيفت على التسعين. في هذا الصدد نظم شوقي قصيدة مطلعها:
ركزوا رفاتك في الرمال لواء
يستنهض الوادي صباح مساء
وفيها يقول منددًا بالحضارة الغربية التى جاوزت الحق فهدمته:
إنى رأيت يد الحضارة أولعت
بالحق هدمًا تارة وبناء
شرعت حقوق الناس فى أوطانهم
إلا أباة الضيم والضعفاء
وفيها يخاطب الشعب الليبي بقوله:
يأيها الشعب القريب، أسامع
فأصوغ من عمر الشهيد رثاء؟
أم ألجمت فاك الخطوب وصرحت
أذنيك حين تخاطب الإصغاء؟
ذهب الزعيم وأنت باق خالد
فانقد رجالك، واختر الزعماء
وأرح شيوخك من تكاليف الوغى
واحمل على فتيانك الأعباء
هذا الشعور بالظلم المشترك الذي أخذ عقب الحرب يتحرك في نفوس أبناء العربية على اختلاف أمصارهم وبيئاتهم كان من أهم العوامل النفسية التي قربت بعضهم من بعض، ودفعتهم إلى التآخي والتآلف في ظل جامعة قومية مهما كان وراء تكوين هذه الجامعة من مصالح سياسية خاصة، وإذا كانت المصالح الإقليمية والنزعات الشخصية قد أحدثت وهنا شديدا في بنيان الجامعة القومي، فإن الأدب العربي عموما- ولاسيما الشعر منه- ظل وفيًّا لهدفها الرئيسي، ولما يدعو إليه من الإخاء والتعاون والتضامن.
بقلم الكاتب: د. محمد عبدالهادي رمضان
عدد القرآء: 227