الجويني والرازي هل عادا من مذهب التأويل (الذي هو تحريف في الواقع) إلى مذهب الإثبات أم إلى مذهب التفويض (وهو المسلك الثاني عند الأشاعرة)؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فتغير حال الجويني والرازي قبل وفاتهما أمر مشهور لا شك فيه، فقد صرحا بخطأ طريقة الفلاسفة والمتكلمين ورجوعهما إلى مذهب السلف من حيث الجملة، قال العلامة عبد الرحمن المعلمي في (القائد إلى العقائد): قد أبلغ الله تبارك وتعالى في إقامة الحجة على اختلال النظر المتعمق في الإلهيات بأن يسر لبعض أكابر النظار المشهورين بالاستقلال أن يرجعوا قبيل موتهم إلى تمني الحال التي عليها عامة المسلمين ، فمنهم الشيخ أبو الحسن الأشعري، وأبو المعالي ابن الجويني الملقب إمام الحرمين، وتلميذه الغزالي، والفخر الرازي.
وأما ابن الجويني فصح عنه أنه قال في مرض موته: لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومه الطاهرة، وركبت البحر الخضم وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها، كل ذلك في طلب الحق وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز.
وقال: اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف، وأني أموت على ما يموت عجائز نيسابور.
وأما الفخر الرازي ففي ترجمته من (لسان الميزان): أوصى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده، وهذه الوصية في ترجمته من كتاب (عيون الأنباء) قال مؤلف الكتاب: أملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني … وهذه نسخة الوصية:.
وقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، ولا ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية.
فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك … أقول ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما … اهـ.
وقد أشرنا إلى شيء من ذلك خلال الفتويين رقم:
والحق أن رجوع هذين العالمين كان قبيل وفاتهما، فلم يسعهما الوقت للرجوع لكتب السنة للوقوف على حقائق مذهب السلف كما ينبغي، فكان رجوعا محمودا من حيث الجملة، ولكن فيه ما فيه من مخالفة السلف عن غير قصد، ومن هذه المسائل مسألة إثبات الصفات الخبرية فقد رجعا فيها إلى التفويض لا إلى الإثبات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء التعارض): ليس للأشعري نفسه في إثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان، بل لم يختلف قوله أنه يثبتها ولا يقف فيها، بل يبطل تأويلات من ينفيها، ولكن أبو المعالي وأتباعه ينفونها، ثم لهم في التأويل والتفويض قولان، فأول قولي أبي المعالي التأويل، كما ذكره في الإرشاد، وآخرهما التفويض، كما ذكره في الرسالة النظامية، وذكر إجماع السلف على المنع من التأويل وأنه محرم.
اهـ.
فهذه هي الحقيقة: أنه رجع عن التأويل ولكن إلى التفويض لا إلى الإثبات.
قال الدكتور عبد الرّحمن المحمود في كتابه (موقف ابن تيمية من الأشاعرة): رجوع الجويني في النظامية لم يكن رجوعاً كاملاً إلى مذهب السلف في جميع المسائل العقيدة وعلم الكلام، والدليل على ذلك: 1 ـ أن رجوعه بالنسبة للصفات كان إلى التفويض، وليس هذا مذهب السلف.
2ـ أن الجويني أبقى على بعض المسائل وعرضها كما هي في مذهبه الأول، ومنها مسألة حدوث الأجسام وكلام الله ومنع حلول الحوادث التي هي مسألة الصفات الاختيارية والرؤية بلا مقابلة، كما أنه أوّل بعض الصفات مثل المحبة أوّلها بالإرادة.
وقال الدكتور خالد المصلح في شرح الفتوى الحموية: الجويني كان في أول أمره مؤولاً، أي: محرفاً على طريقة المتكلمين، ثم إنه بعد أن رأى أن طريقته لا توصل إلى معرفة بالله سبحانه وتعالى، ولا إلى علم بما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه؛ انصرف عن هذه الطريقة إلى ما اعتقده أنه طريق السلف وهو التفويض، فترك التأويل إلى التفويض.
وللدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي رسالة علمية عن مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات.
ذكر فيها رجوع الجويني عن التأويل إلى التفويض لا الإثبات، فقال: جرى الجويني على طريقة التأويل في الصفات الخبرية التي تخالف أصول المتكلمين العقلية ولم يأذن بغيرها.
وهذا أول قولي أبي المعالي الذي أثبته في كتبه الأولى كالشامل والإرشاد، إلا أنه في آخر أمره سلك مسلك التفويض في رسالته إلى نظام الملك المسماة (الرسالة النظامية) ـ وذكر نص كلامه، ثم قال ـ : ويذهب بعض الباحثين من القدامى والمحدثين إلى اعتبار هذا النص رجوعا من الجويني إلى مذهب السلف، والحق أن هذا ليس على إطلاقه بل هو رجوع إلى جزء من الحقيقة وانتقال إلى خطأ آخر في الجزء الباقي، فهو رجوع إلى موافقة السلف في ترك التأويل والخوض في المعاني بلا علم.
وخطأ في اعتبار مذهب السلف تفويضا وإخلاء للنصوص عن معانيها.
وذكر بعد ذلك ما يتعلق بحال الرازي كذلك.
وتجد ذلك أيضا في رسالة الدكتور عبد الله بن حسين الموجان (الرد الشامل).
وقد سبق لنا بيان معنى التفويض عند السلف والخلف في الفتوى رقم:
والله أعلم..