سؤالي هو: ذكر الكوثري أن البخاري قال: إنه لم يخرج في كتابه إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، ومع ذلك، فقد أخرج عن الخوارج وغيرهم ممن يخالفون في أن الإيمان قول وعمل، فما هو الجواب عن ذلك؟..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فلفظ الكوثري ـ كما في تأنيب الخطيب: ومن الغريب أن بعض من يعدونه من أمراء المؤمنين في الحديث يتبجح قائلا: إني لم أخرج في كتابي عمن لا يرى: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، مع أنه أخرج عن غلاة الخوارج.
اهـ.
والذي يظهر أنه أراد بهذا الطعن السمج الإمامَ البخاريَّ ـ رحمه الله ورضي عنه ـ وإن كان لفظ عبارة الإمام مخالف للفظ الذي ذكره الكوثري كما هي عادته في النقل!.
ولفظها كما رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: بإسناده عن الحسين بن محمد الوضاح ومكي بن خلف بن عفان قالا: سمعنا محمد بن إسماعيل يقول: كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول.
ونقله الحافظ ابن حجر في هدي الساري وفي تغليق التعليق.
وذكر الذهبي في السير عن محمد بن أبي حاتم ـ وراق البخاري ـ أنه سمعه قبل موته بشهر يقول: كتبت عن ألف وثمانين رجلا، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
ومن تأمل نص كلام الإمام البخاري وما ذكره الكوثري يجد بينهما فرقا بينا جليا، فالبخاري لم يكن في معرض الكلام عن صفة وحال من يرى إخراج حديثه في الصحيح أو في غيره، وإنما كان في معرض بيان اتفاق من يعتد باتفاقهم من أهل العلم على مسألة مهمة من مسائل الاعتقاد، وهي كون الإيمان: قولا وعملا.ومما يؤكد هذا ما ذكر اللالكائي ـ أيضا ـ في بيان اعتقاد الإمام البخاري حيث أسند عن أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن البخاري قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري يقول: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم ـ وسمى منهم خلقا كثيرين من أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر ـ ثم قال: واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرا وأن لا يطول ذلك، فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: روى ـ يعني اللالكائي ـ بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.
وهذا ظاهر في كون البخاري ـ رحمه الله ـ إنما أراد بيان اتفاق من يعتد بهم من أئمة الإسلام على كون الإيمان قولا وعملا، ولم يرد أنه لم يرو ـ فضلا عن أن يكتب ـ إلا عن من هذه صفته، وإلا فسيأتي بيان إخراج البخاري في صحيحه لرواية بعض من رمي بالإرجاء وهم سبعة، كما روى عمن رمي برأي الخوارج وهم ثلاثة.
والذي دعا الكوثري لهذا الطعن البغيض: أن كلام الإمام البخاري هذا يتناول مرجئة الفقهاء من الحنفية الذين أخرجوا العمل من مسمى الإيمان.
والكوثري معروف بتعصبه الشديد جدا للحنفية حتى إنه لقب بمجنون أبي حنيفة، وهذا قد دعاه للطعن في كثير من أئمة الإسلام، وصدق فيه قول العلامة المعلمي في مقدمة كتابه: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ـ حيث قال: تعدى ما يوافقه عليه أهل العلم من توقير أبي حنيفة وحسن الذب عنه - إلى ما لا يرضاه عالم متثبت من المغالطات المضادة للأمانة العلمية، ومن التخليط في القواعد، والطعن في أئمة السنة ونقلتها حتى تناول بعض أفاضل الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة ـ مالكاً والشافعي وأحمد ـ وأضرابهم، وكبار أئمة الحديث وثقات نقلته والرد لأحاديث صحيحة ثابتة، والعيب للعقيدة السلفية، فأساء في ذلك جداً حتى إلى الإمام أبي حنيفة نفسه.
وقد عقد العلامة المعلمي في كتابه هذا بابا لقضية: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ـ قال في مطلعه: اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ليس العمل من الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص.
وروى الخطيب عن جماعة من أهل السنة: إنكارهم ذلك على أبي حنيفة ونسبته إلى الإرجاء، فتكلم الكوثري في تلك الروايات وحاول التشنيع على أولئك الأئمة، وأسرف وغالط ـ على عادته ـ فاضطررت إلى مناقشته دفعاً لتهجمه بالباطل على أئمة السنة.
فليراجع هذا الفصل بطوله.
وأما مسألة رواية البخاري ـ رحمه الله ـ عن غلاة الخوارج: فسبب ذلك واضح، وهو أنهم لا يتحاشون الكذب فحسب، بل يكفرون فاعله، ولذلك روى الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية عن أبي داود صاحب السنن قوله: ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج، ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسان الأعرج.
وقال الصنعاني في ثمرات النظر: رووا عن الخوارج ـ وهم أشد الناس بدعة ـ لأنهم يكفرون من يكذب، فقبولهم لحصول الظن بخبرهم.
ولما تعرض ابن الصلاح في مقدمته لمسألة الرواية عن أهل البدع قال: فمنهم من رد روايته مطلقا.ومنهم من قبلها إذا لم يكن ممن يستحل الكذب.
وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية، ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء.وهذا المذهب أعدلها وأولاها، والأول بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة.
فعلق عليه العراقي في التقييد والإيضاح فقال: قد اعترض عليه بأنهما ـ يعني البخاري ومسلما ـ احتجا أيضا بالدعاة، فاحتج البخاري بعمران بن حطان ـ وهو من دعاة الشراة ـ واحتج الشيخان بعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء، كما قال أبو داود.
قلت: قال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج، ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسان الأعرج.
ولم يحتج مسلم بعبد الحميد الحماني، إنما أخرج له في المقدمة، وقد وثقه ابن معين.
وقال السيوطي في تدريب الراوي: أردت أن أسرد هنا من رمي ببدعة ممن أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما، وهم: إبراهيم بن طهمان، أيوب بن عائذ الطائي، ذر بن عبد الله المرهبي، شبابة بن سوار، عبد الحميد بن عبد الرحمن، أبو يحيى الحماني، عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عثمان بن غياث البصري، عمر بن ذر، عمرو بن مرة، محمد بن خازم، أبو معاوية الضرير، ورقاء بن عمر اليشكري، يحيى بن صالح الوحاظي يونس بن بكير: هؤلاء رموا بالإرجاء، وهو تأخير القول في الحكم على مرتكب الكبائر بالنار،عكرمة مولى ابن عباس، الوليد بن كثير: هؤلاء : حرورية وهم الخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان وذويه وقاتلوهم، عمران بن حطان من القعدية الذين يرون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك، فهؤلاء المبتدعة ممن أخرج لهم الشيخان أو أحدهما.
وقد عقد الحافظ ابن حجر في هدي الساري بابا لسياق أسماء جميع من طعن فيه من رجال البخاري، والجواب عن ذلك الطعن بطريق الإنصاف والعدل والاعتذار عن المصنف في التخريج لبعضهم ممن يقوى جانب القدح فيه، إما لكونه تجنب ما طعن فيه بسببه، وإما لكونه أخرج ما وافقه عليه من هو أقوى منه، وإما لغير ذلك من الأسباب.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم:
وأخيرا ننبه السائل على أن الخوارج لا يخالفون في أن الإيمان: قول وعمل، ولكنهم يجعلون العمل ركنا في الإيمان، الذي لا يتجزأ عندهم، وبالتالي يكفرون بترك إفراد العمل، فأصحاب الكبائر عندهم كفار مخلدون في النار، وراجع في بيان عقائدهم الفتوى رقم:
والله أعلم..