لقد أشكل علي حديث آخر من يدخل الجنة: فقد قرأت مرة أنه يكبو على الصراط، وفي حديث آخر أنه يدخل النار، ثم يخرج منها، وقد ذكر في حديث: (سأَل مُوسَى ﷺ ربَّهُ، ما أَدْنَى أَهْلِ الْجنَّةِ مَنْزلَةً؟.
) أن لأدنى أهل الجنة منزلة: (فَيقُولُ في الْخَامِسَةِ: رضِيتُ ربِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وعشَرةُ أَمْثَالِهِ، ولَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، ولَذَّتْ عَيْنُكَ)، وقد ورد في حديث ابن مسعود: (إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْل النَّار خُرُوجًا مِنهَا.
) إن لأدنى أهل الجنة منزلة: (فإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيا وعشَرةَ أَمْثَالِها، أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْل عَشرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيا.
)، فكيف نوفق بين الحديثين؟ وهل آخر أهل النار خروجا منها هو ذاته صاحب أدنى منزلة في الجنة؟ أم إنهم رجلان مختلفان؟ فإني قرأت مرة أن الأحاديث المذكورة في أدنى أهل الجنة منزلة هي لآخر رجل يدخل الجنة دون أن يمسه عذاب.
.

الحمد لله.

أحاديث أدنى أهل الجنة منزلة وأخر أهل النار خروجا منها هذه الأحاديث صحيحة واردة في الصحيح.
فحديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا - أَوْ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا - فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي - أَوْ: تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ المَلِكُ.

فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً رواه البخاري (6571)، ومسلم (186).

وحديث سؤال موسى عليه السلام، هو عند الإمام مسلم (189) عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ؟ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ.

والأحاديث الصحيحة لا تعارض بينها بحمد الله تعالى.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة.

وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه، ليس أحدهما ناسخا للآخر، فهذا لا يوجد أصلا، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق، والآفة من التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معا، ومن هاهنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع، وبالله التوفيق " انتهى من "زاد المعاد" (4 / 137– 138).

فالواجب عند إمكانية الجمع بين النصوص أن نجمع بينها.

توضيح ما يظهر أنه تعارض بين الحديثين: وما يظهر من تعارض بين الحديثين هو في أمرين: الأمر الأول: هو أن حديث عبد الله بن مسعود وصف الرجل بأنه آخر من يدخل الجنة وآخر من يخرج من النار، وأما حديث المغيرة فوصفه فقط بأنه آخر من يدخل الجنة، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن حديث المغيرة لم ينف عن الرجل التعذيب، فيكون في حديث ابن مسعود زيادة تفصيل لحال الرجل، فلا تعارض بحمد الله تعالى.

الأمر الثاني: في صفة الثواب، ففي حديث ابن مسعود: فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا.

وفي حديث المغيرة: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ.

وقد جمع بينهما الإمام النووي رحمه الله تعالى، حيث قال: " قوله صلى الله عليه وسلم: (فَيَقُولُ الله تعالى: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا) وفي الرواية الأخرى: (لَكَ الَّذِي تَمَنَّيْتَ، وَعَشَرَةَ أَضْعَافِ الدُّنْيَا) هاتان الروايتان بمعنى واحد، وإحداهما تفسير الأخرى، فالمراد بالأضعاف: الأمثال؛ فإن المختار عند أهل اللغة أن الضعف المثل.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الأخرى في الكتاب: (فيقول الله تعالى: أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا، وَمِثْلَهَا مَعَهَا)، وفي الرواية الأخرى: (فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ)، فهاتان الروايتان لا تخالفان الأوليين؛ فإن المراد بالأولى من هاتين: أن يقال له أولا لك الدنيا ومثلها، ثم يزاد إلى تمام عشرة أمثالها كما بينه في الرواية الأخيرة.

وأما الأخيرة فالمراد بها: أن أحد ملوك الدنيا لا ينتهي ملكه إلى جميع الأرض، بل يملك بعضا منها، ثم منهم من يكثر البعض الذي يملكه ومنهم من يقل بعضه، فيعطى هذا الرجل مثل أحد ملوك الدنيا خمس مرات، وذلك كله قدر الدنيا كلها، ثم يقال له لك عشرة أمثال هذا فيعود معنى هذه الرواية إلى موافقة الروايات المتقدمة، ولله الحمد وهو أعلم " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (3/ 41–42).

ولهذا قرر الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله، أن الحديث في شأن شخص واحد؛ فآخر أهل الجنة دخولا الجنة، هو آخر أهل النار خروجا منها.

قال رحمه الله تعالى: " في هذا الحديث من الفقه أن أدنى أهل الجنة منزلة: من يجتمع له مثل ملك ملوك الدنيا في شرقها وغربها وجبالها وأوديتها وأنهارها وأشجارها، ويضاعف ذلك عشرة أضعاف.

وهذا آخر من يخرج من النار، فلا يبقى بعده إلا من يخلد " انتهى من "الافصاح" (2/51).

والله أعلم.
.