هل مباح أكل ما اصطدته بنفسي ولكن جاء به كلبي ؟ إن كانت الإجابة نعم ، إذن لماذا القول بأن لعاب الكلب نجس ، فلو كان نجسا ما كان الصيد مباحا ..
الحمد لله.
أولا : حكم الكلب من جهة الطهارة والنجاسة سبق تفصيل الكلام عنه في موقعنا ، في الفتوى رقم : (
وإذا كان كذلك ، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال : ( طُهُورُ إِنَاءِ أحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ أنْ يَغْسِلَهُ سَبْعاً ، أولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ) فأحاديثُه كلُّها ليس فيها إلا ذكر الولوغ ، لم يذكر سائر الأجزاء ، فتنجيسها إنما هو بالقياس.
وأيضاً فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رخَّص في اقتناء كلب الصيد والماشية والحرث ، ولا بد لمن اقتناه أنْ يصيبه رطوبةُ شعوره كما يصيبه رطوبةُ البغل والحمار وغير ذلك ، فالقول بنجاسة شعورها والحال هذه من الحرج المرفوع عن الأمة " انتهى باختصار من " مجموع الفتاوى " (21/617-619).
ثانياً : إذا حكمنا بنجاسة ريق الكلب يبقى السؤال عن حكم ما أصاب بفمه من الصيد ، سواء صاده بنفسه ، أم أمسكه للصائد ، لا فرق بين الحالتين ، فكلاب الصيد تستعمل في كلا الأمرين ، ولم يرد في السنة أو لدى الفقهاء التفريق بينهما من حيث الطهارة والنجاسة.
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين : القول الأول : وجوب غسل الصيد مكان إمساك الكلب بفمه ، وهو المعتمد في مذهب الشافعية والحنابلة ، كما هو ظاهر مذهب الحنفية ، حيث نصوا على نجاسة سؤر كلب الصيد ، والسؤر يشمل ما تبقى من الشراب والطعام ومن كل شيء ، ولم نقف على استثناء حالة الصيد عندهم.
جاء في " مراقي الفلاح " (ص/30) من كتب الحنفية : " السؤر النجس ما شرب منه الكلب ، سواء فيه كلب صيد وماشية وغيره ".
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله : " مَعَضُّ الكلب [ أي: مكان عضته ] من الصيد نجس نجاسة مغلظة ، كغيره مما أصابه بعض أجزاء الكلب مع رطوبة ، والأصح : أنه لا يُعفى عنه ؛ لندرته ، والأصح : أنه يكفي غسله بماء سبعا وتراب في إحداهن كغيره ، ولا يجب أن يُقَوَّر ويُطرح ؛ لأنه لم يرد ، وتشرب اللحم بلعابه لا أثر له ؛ لأنه لا نجاسة على الأجواف كما نص عليه " انتهى من " تحفة المحتاج " (9/331).
ويقول البهوتي رحمه الله : " يجب غسل ما أصابه فم الكلب ؛ لأنه موضع أصابته نجاسته ، فوجب غسله كغيره من الثياب والأواني " انتهى من " كشاف القناع " (6/224) ، وقال عنه المرداوي رحمه الله : " هو المذهب " ينظر " الإنصاف " (10/433).
القول الثاني : لا يجب غسل ما أصاب الكلب بفمه من الصيد ، بل هو مما يعفى عنه ، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعية – كما نقله النووي في " المجموع " (9/124) - ، وإحدى الروايتين في مذهب الحنابلة ، كما يقول المرداوي رحمه الله : " صححه في التصحيح ، وتصحيح المحرر ، وجزم به في الوجيز " انتهى من " الإنصاف " (10/434) ، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله.
واستدلوا بظاهر " قول الله عز وجل : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) المائدة/4.
قالوا : ولم يأمر بغسله ، مع أنه لا ينفك عنه غالبا أو دائما ، ولهذا لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، مع ذكره للأحاديث الواردة فيه ، مع تكرار سؤاله صلى الله عليه وسلم عن ذلك " ينظر " المجموع " (9/124).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " لعاب الكلب إذا أصاب الصيدَ لم يجب غسله في أظهر قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً بغسل ذلك ، فقد عُفي عن لعاب الكلب في موضع الحاجة ، وأمر بغسله في غير موضع الحاجة ، فدلَّ على أنَّ الشارع راعى مصلحة الخلق وحاجتهم " انتهى من " مجموع الفتاوى " (21/620)، وانظر (19/25-26).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم قال : ( إِذا وَلَغَ ) ، ولم يقل : ( إِذا عَضَّ )، فقد يخرج من معدته عند الشرب أشياء لا تخرج عند العضِّ.
ولا شَكَّ أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يغسلون اللحم سبع مرات إِحداها بالتُّراب ، ومقتضى ذلك أنه معفوٌّ عنه ، فالله سبحانه هو القادر وهو الخالق وهو المشرِّع ، وإِذا كان معفوًّا عنه شرعاً ، زال ضرره قدراً ، فمثلاً الميتة نجسة ، ومحرَّمة ، وإِذا اضطُرَّ الإِنسان إِلى أكلها صارت حلالاً ، لا ضرر فيها على المضطرِّ.
فالصَّحيح : أنه لا يجب غسل ما أصابه فَمُ الكلب عند صيده لما تقدَّم ؛ لأن صيد الكلب مبنيٌّ على التَّيسير في أصله ؛ وإِلا لجاز أن يُكلِّفَ الله عزّ وجل العباد أن يصيدوها بأنفسهم ؛ لا بالكلاب المعلَّمة ، فالتيسير يشمل حتى هذه الصُّورة ، وهو أنه لا يجب غَسْل ما أصابه فَمُ الكلب ، وأن يكون مما عَفَا الله تعالى عنه " انتهى من " الشرح الممتع " (1/420).
والقول الثاني : هو أظهر القولين في المسألة ، لقوة أدلته ، ولما فيه من رفع الحرج والمشقة ، ولكنه لا يستلزم الحكم بطهارة ريق الكلب مطلقا ، حتى لو ولغ في الآنية ، كما يقرره المالكية ، فالحكم السابق خاص في حالة الصيد فقط ، مستثنى من القاعدة العامة في نجاسة لعاب الكلب ، والاستثناء لا يجوز القياس عليه وإلا عاد على الحكم الأصلي بالبطلان ، والحكم الأصلي ثبت بالسنة النبوية الصحيحة في وجوب غسل سؤر الكلب ، فالقول بالعفو عن لعابه في الصيد فيه جمع بين الأدلة كلها ، وإعمال لها كل بحسب حالتها.
فالعفو عن مكان عض الكلب من الصيد : إنما هو من باب التخفيف والتيسير ، لعموم البلوى به، ومشقة التحرز عنه.
والله أعلم ..